تفريغ نصي الفاضلة أم سيد رضا
عن سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام أنها قالت: ( أ فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهركم إذ يقول وورث سليمان داؤود، وقال فيما اختص من خبر زكريا فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب، وقال وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وقال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين، وزعمتم ألا حظ لي ولا إرث لي من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها أم تقولون أهل ملة لا يتوارثان، أولست أنا وأبي أهل ملة واحدة أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي فدونكموها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ونشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند القيامة يخسر المبطلون ولا ينفعكم الندم إذ تندمون ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) صدقت سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام بنت نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أول محكمة قانونية حاكمت فيها امرأة دولة في تاريخ المسلمين وأول مرافعة قضائية مستدلة رفعتها سيدة النساء سلام الله عليها في هذه الخطبة الشريفة أمام تلك الحكومة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، كان العنوان الظاهر هو عنوان فدك بإعتبار أن فيها مظلمة يمكن للجميع إدراكها وتصورها، بينما الأمر كان يمتد إلى أبعد من هذا حتى تقول عليها السلام إن الدولة والحكومة التي تبتدأ أول بداية في أول قرار من القرارات الرسمية بمخالفة صريحة صلعاء للموازين الإسلامية والقانونية، لا يمكن ان تكون إمامة إلاهية، فالإمامة الإلهية تدعم العدل وتجري القانون وتطبق القرآن الكريم، فقضية فدك وتأميمها ومصادرتها لصالح الدولة هي أول قرار اتخذته الخلافة بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد ذلك أصبحت هناك بعض ردود الأفعال من قبل الاطراف الذين لم يعترفوا بالخلافة الحاضرة ولم يسلموا زكاة أموالهم كمالك بن نويرة وقومه وكانت هناك أيضاً حركات تمرد عقدية بالفعل فخلط الجميع في سلة واحدة.
فلننظر إلى هذه القضية بإعتبار أنها قضية محورية ونرى كيف جرت المسألة وما هي حقيقة هذه الدعوة وكيف استدلت فاطمة الزهراء عليها السلام وكيف أجابت الخلافة وما الذي ينبغي أن يتبع؟
فدك هي قرية صغيرة من القرى التي كانت خالصة لليهود وهي أرض خصبة جداً بها مزارع وبساتين وهي ليست بستاناً بل قرية كاملة وهي موجودة حتى الآن وتسمى بالحائط، فاليهود انتخبوا أفضل الأماكن الزراعية واشتروها وبنوا عليها وبدأ يعمرون ويزرعون فيها وكانت مصدر ثراء وقوة اقتصادية لهم في داخل المدينة وخارجها.
نلاحظ أن المزارع والبساتين التي كانت بيد اليهود هي من أخصب المناطق ومنها ما عرف بحوائط مخيريق اليهودي، وهذا الرجل كان قارئاً للكتب وصادقاً مع نفسه وأخبر اليهود بأن ما فعلوه من تكذيب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو خيانة وأن الصفات التي يقرؤونها في كتبهم تنطبق على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك ينبغي الإيمان به، فلما رأى الإعراض منهم خرج من المدينة وذهب ملتحقاً برسول الله واستشهد في أحدى الغزوات، وقبل خروجه من المدينة أشهد اليهود وأهل المدينة بأن كل ما لديه من أموال وبساتين وأراضي وعقار وغير ذلك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تعرف الآن بالحوائط السبعة أو حوائط مخيريق.
اليهود الذين هم داخل المدينة وخارجها سيطروا على الأماكن الزراعية بالشراء وغير ذلك، وبعد معركة خيبر التي كان فيها تآمر اليهود الخيبريين ويهود بني قريضة مع اليهود الموجودون في فدك على نقض العهود مع رسول الله، استفاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حالة الرعب والخوف التي أصبحت عند اليهود وذهب إلى فدك واستطاع أخذها من دون قتال، وبالتالي لم يقاتل ولم يحارب في سبيلها بل أخذها النبي صلى الله عليه وآله طبقاً للقانون الإسلامي الموجود عند المدرستين ( مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت ) وهو: ( ان مالم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو يعود لرسول الله خالصاً )، ولذلك استلمه النبي في اليوم الرابع عشر من محرم في السنة السابعة للهجرة، ولما نزلت الآية القرآنية: (( وآت ذا القربى حقه )) وهب النبي فدكاً لفاطمة الزهراء عليها السلام كما يذهب إلى ذلك الإمامية، وسلمها إياها وترك المزارعين فيها لم يخرجهم منها على أن يستفيدوا منها ويسلموا العائدات عليها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أحد عمالها مشرفاً على هذه المنطقة ليستلم العوائد، وبعد استلام فاطمة الزهراء عليها السلام لهذه المنطقة أصبحت ملكاً لها وكل ما يعود على هذه الأرض يتم تسليمه لها عليها السلام، فقد كانت الزهراء تستلم غلتها وتتصرف فيها كما كان رسول الله وعلي عليه السلام يتصرفان بالعطاء، وإلى هذا يشير امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة عندما يقول: ( كانت في ايدينا فدك من كل ما أضلته السماء ) وهذا تعبير على أن الإنسان إذا كان بيده شيء فاليد تكون امارة على الملك وعلامة عليه.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول قرار اتخذته الخلافة هو عزل وكيل فاطمة عليها السلام الذي عينة النبي من قبل وإرسال شخصاً آخر من ثقيف، ذهبت فاطمة عليها السلام في رواية وأخذت تناقش الخليفة الأول وبينت له هذا الامر وبحسب ما نقل في السيرة الحلبية وما نقله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج أن الخليفة أبو بكر أراد إرجاع فدك لفاطمة بل وقيل انه كتب لها كتاباً به فجاء له عمر بن الخطاب وقال له أن هذه المنطقة الواسعة الكبيرة إن أعطيتها لفاطمة وأنت مقبل على حرب وقتال فلن تجد ما تنفقه، فأخذ الكتاب ومزقه.
الغالب في أهل المدينة أنهم لم يكونوا يعرفون هذه التفاصيل ولذلك كانت ردة فعلهم باهتة وغير واضحة وهذا يعني انهم لم يكونوا جميعهم جاحدين وكذبين بل لأن البعض منهم لم يكونوا يتصورون القضية ولم يعرفوا تفاصيلها، فالخلافة حتى تسيطر على فدك قالت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نحن معاشر الانبياء لا نورث وما تركناه فهو صدقة أو لولي الامر من بعدنا، وفي نقل آخر: نحن معاشر الانبياء لا نورث ديناراً وإنما نورث الكتاب والحكمة، فأشاعوا ذلك الأمر بين الناس وهذا نوع من الذكاء أيضاً عندما قالوا أن هذا المال في سبيل المسلمين جميعاً أو في بيت مال المسلمين للإنفاق على الفقراء والجيش ونشر الإسلام.
عندما طرحوا هذه القضية ( نحن معاشر الانبياء لا نورث ) قامت فاطمة الزهراء عليها السلام بطرح قضية الميراث، وسألتهم عن مرجعيتهم القانونية التي من المفترض أن تكون القرآن الكريم ولهذا قالت: أ فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ أي هل أنتم متعمدون في إبعاد مرجعية القرآن عن القضاء والحكم؟، فكانت إجابتهم (لا) لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا نعم تركنا مرجعية القرآن الكريم، فناقشتهم الزهراء عليها السلام بحسب مرجعية القرآن والتي تقول:
1 – أن أي علاقة غير رحمية لا تسبب ميراثاً، ومعنى غير رحمية أي ما لا يشمل النسب و السبب، أي ان الولاية بين المسلمين في قوله تعالى: (( بعضكم أولياء بعض )) لا تسبب ميراثاً، وكذلك المؤاخاة بين المسلمين لا تسبب ميراثاً، وأيضاً في قضية التبني لا يترتب عليها ميراثاً، وإنما الآية التي تدل على قضية الميراث هي ((وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)).
2 – أن هناك قانون تفصلي في قوله تعالى: ((يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين))، أي أن الولد ذكراً كان أو أنثى له في أموالكم، والخطاب للمسلمين وأول المسلمين الذي هو مخاطب بالأحكام الشرعية هو سيد الانبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
3 – أنه معاشر الانبياء هل يشمل سليمان وداؤود؟ هل يشمل يحيى وزكريا؟ فكيف يقول النبي كلاماً مخالفاً بنصه لآية القرآن الكريم؟، ولذلك قالت عليها السلام أن الله تعالى يقول: ((وورث سليمان داؤود))، وقوله تعالى: (( وهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً )) وهذه وراثة عامة ليس لأحد أن يقول أنه ورثه في النبوة لأن النبوة لا تورث ولذلك وجد انبياء ولم يرثوا نبوتهم من آباءهم، كما في قوله تعالى أيضاً: (( وأني خفت الموالي من ورائي )) فالموالي لا يخاف منهم على النبوة وإنما يخاف منهم على الامور المادية لأن النبوة في مكانها وهي اختيار واصطفاء إلهي، إذا أن الكلام الذي قاله الخليفة هو كلام معارض ومخالف للقرآن الكريم.
قالت عليها السلام في مكان آخر من خطبتها: ما كان أبي لكتاب الله مخالفاً ولا عن أحكامه صادفاً، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا جاءكم حديث عني فأعرضوه على كتاب الله فإن وافق القرآن فخذوه وإن خالف القرآن فدعوه، وفي نقل: فاضربوا به الحائط.
الزهراء عليها السلام كررت جملة ( فاعلموا أني فاطمة وأبي محمد ) وهذا يدل على عدة جهات:
1 – لتقول للجميع أن آية: (( يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين)) هي تشملني لأن أبي رسول الله وانا ابنته فاطمة.
2 – لتقول عليها السلام أنه لا مانع عندي من الإرث عنما قالت في خطبتها: (أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست انا وأبي أهل ملة واحدة؟)
وهنا يأتي السؤال بأن بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي من الميراث، فهل سمعتم أن الخلافة أخرجت زوجات النبي من البيوت بإعتبار أن النبي لا يورث وان ما تركه هو صدقة؟ لذلك نلاحظ أن الذين جاؤوا بهذا الحديث لم يغلقوا المسألة من جميع جهاتها، بل الأكثر من ذلك لو قرأنا في كتاب الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه ( فدك في التاريخ ) وهو كتاب ألفه في وقت مبكر من شبابه، لوجدناه يقول أنه لم يكن ينبغي أن يطلب من فاطمة أي شيء كالشهود مثلاً فإنه لا ينبغي أن يطلب منها شهود لأن صاحب اليد لا ينبغي أن يطلب منه شهود ولذلك فإن أصل الطلب غير صحيح.
الفعل الذي فعلوه مستنكر لأن الخلافة إما أن تؤمن بآية التطهير أو لا تؤمن بها، فالخلاف الموجود هو هل أن زوجات النبي يدخلن فيها او لأ، وإلا فإن فاطمة على كل التقادير هي داخلة فيها فلا يعقل عندما يقوم القرآن بتطهير فاطمة من الرجس أن نقول بأنها كاذبة والعياذ بالله كما قالوا لها بان دعواها كاذبة وتدعي ما ليس لها بحق.
لو راجعنا سنن البيهقي لوجدنا بأن الخلافة في هذه الفترة قالت أن من كان له من رسول الله عدة بعطية فليقم، أي من وعده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإعطاءه شيئاً ما يجب أن تنفذ هذه العدة، فقام شخصان في قضيتين مختلفتين وقال أحدها وهو جابر بأن النبي وعده بأن يحثو له فقبل كلامه وحثي له خمس مائة درهم وخمس مائة درهم، والشخص الآخر وهو أبو بشر قال نفس الكلام فقبلوا كلامه أيضاً، ومن هنا نجد أن هؤلاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا بأن النبي وعدهم بذلك وأعطوهم ما يريدون، فكيف بفاطمة عليها السلام التي كانت يدها على فدك وشاهدها علي عليه السلام الذي هو مع الحق والحق مع علي وكذلك شاهتها أم أيمن التي شهد لها رسول الله بأنها من أهل الجنة وشاهد لها الحسنان اللذان هما سيدا شباب أهل الجنة فأقامت بذا شهوداً فقالوا بعلها شاهد لها وابناها ورفضوها.
اختصرت فاطمة عليها السلام الأمر بمقالتها بعد أن احتجت وتوجهت إلى الأنصار: إيهاً بني قيلة ( قيلة هي جدة الاوس والخزرج )، ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله أبي يقول المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما احاول وقوة على ما أطلب، تقولون مات محمد؟ أي والله خطب جليل استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه وأظلمت الارض لغيبته وكسفت الشمس والقمر فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة أعلن عنها كتاب الله جل ثناؤه (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين))، إيهاً بني قيلة أأهضم تراث أبي وأنتم بمرئاً مني ومسمع وملتقاً اجمع تلبسكم الدعوة وتشملكم الغيرة وأنتم ذووا العدد والعدة والأداء والقوة توافيكم الدعوة فلا تجيبون وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون وأنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب وناطحتم الامم وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ودر حلب الأيام وخضعت ثغرة الشرك وسكنت فورة الإفك وخمدت نيران الكفر فأنا حرتم بعد البيان وأسررتم بعد الإعلان ونكصتم بعد الإقدام وأشركتم بعد الإيمان، بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مره أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا وأني أرى قد أخلدتم إلى الخفض وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض وخلوتم بالدعة ونجوتم بالضيق من السعة فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض فإن الله لغني حميد، ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ولكنها فيضة النفس ونفثة الغيظ وخور القناة وبثة الصدر وتقدمة الحجة فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر نقبة الخف باقية العار موسومة بغضب الجبار وشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينفلبون وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فأجابها الخليفة وردت عليه ولما لم تجد نفعاً رجعت إلى منزلها فنظرت إلى أمير المؤمنين سلام الله عليه وقالت: يا ابن أبي طالب اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنين نقضت قادمة الأجدل وخان كريش الأعزل، افترست الذئاب وافترست التراب، هذا ابن أبي فلان يبتزني نحلة أبي وبليغة ابني حتى لقد منعتني المهاجرة وصلها وقيلة نصرها، ويلاي في كل شارق ويلاي في كل غارب مات العمد ووهن العضد وعند الله أحتسب.
فأجابها الإمام علي عليه السلام إجابة طيبت خاطرها وهدئت من روعها وبقيت تجتر الآلام والأحداث حتى استشهدت سلام الله عليها ولعنة الله على ظالميها وغاصبيها حقها.