كتابة الفاضلة أم سيد رضا
جاء في كتاب الامالي لشيخنا الأقدم محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق والمتوفى سنة 381 للهجرة فيما يرتبط بمناقب أمير المؤمنين عليه السلام جاء الحديث التالي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا علي أنت مني بمنزلة هبة الله من آدم وبمنزلة سام من نوح وبمنزلة إسحاق من إبراهيم وبمنزلة هارون من موس وبمنزلة شمعون من عيسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا علي أنت وصيي وخليفتي فمن جحد وصيتك وخلافتك فليس مني ولست منه وأنا خصمه يوم القيامة).
بمناسبة هذا اليوم المبارك لميلاد مولانا سيد الوصيين أمير المؤمنين علي عليه السلام نتناول بعض الملاحظات حول الحديث المشهور بين المسلمين بل الذي يصل في طرقه إلى حد التواتر اللفظي والإجمالي وهو المعروف بحديث المنزلة، وقصة الحديث المشهورة بين المسلمين هي في رواية أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبي أيوب الأنصاري وعشرات غيرهم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة على أثر تحدٍ كبير توجه إلى المسلمين من قبل الروم، حيث جيَّش الروم ما يزيد عن أربعين ألفاً في بعض التواريخ للهجوم على الدولة الإسلامية التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وآله.
عندما نفول في السنة التاسعة فهذا يعني أن قريش واليهود قد انتهوا، وأصبحت القوة المسيطرة في الجزيرة العربية بل ما حولها هي قوة رسول الله صلى الله عليه وآله، بقوة البرهان من جهة وبقوة الجهاد من جهة أخرى، فالروم مع توسع الحالة الإسلامية وبدايات انتشار الإسلام حيث أن الرسول صلى الله عليه وآله لم في ذلك الحين بدأ يرسل رسله ومكاتيبه إلى أطراف الجزيرة العربية، فقد أرسل إلى الروم والفرس، فضلاً عن التماس والتواصل لطبيعي الذي كان يحصل، فعندما تؤمن قبيلة برسول الله فإن القبائل التي بجوارها تنساق للإيمان بالرسول أيضاً، فهذا التداخل والتواصل والتعامل كان ينتج أن يرى الآخرون محاسن الإسلام في عقائده وأخلاقه وعباداته وكانوا يتأثرون.
كان الروم يروا بأن ذلك تهديد لهم، فهو تهديد لقوتهم بإعتبار أن هناك قوة جديدة مسيطرة عندها دين يكتسح وعندها قوة عسكرية لم تُهزَم، وبالتالي كانت تتنامى يوماً بعد يوم، فتجهز الروم للقتال وقد اشتروا القبائل العربية الشامية والتي في أطراف الشام حتى أنهم أعطوهم مؤونتهم كما قيل لسنة كاملة مجاناً، فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يواجههم، هناك تفاصيل في قضية تبوك وغزوة تبوك تبين ذلك، فقد كانت أول مواجهة ترفع رسمياً الراية المسيحية في مواجهة الإسلام، بل وحتى جندوا من كان يتعاطف مع القضية المسيحية كقبيلة طي (الطائيون)، الذي كان ينمتي لها عدي بن حاتم الطائي الذي كان رئيساً على الأرثوذكسية وهي الكنيسة الشرقية المسيحية.
الشاهد هنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى أن هذه معركة فاصلة ومحورية ولا بد أن يذهب بنفسه مع بعد المسافة بين المدينة وبين تبوك، فعندما أراد الخروج قال لأمير المؤمنين عليه السلام: أما أن تخرج وأقيم أو أخرج وتقيم، فاختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون هو على رأس الجيش، فالفئة المرجفة والمنافقة والمعادية لأمير المؤمنين عليه السلام بدأوا يتحدثون بأن النبي لا يحب عليه بن أبي طالب، ولو أنه كان يحبه لأخذه معه للقتال، وقد كانت هناك فئة تتقصد في تنزيل منزلة أمير المؤمنين عليه السلام وتهوين شأنه، ومع أن أمير المؤمنين كان يعرف مقدار نفسه ويعرف منزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله ومنزلته من الله ومن الدين لكنه أراد أن يعرف الناس ذلك، فلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان هذا عملاً ممتازاً لأنه لو لم يكن هذا ولم يتحدث رسول الله بهذا الحديث فقد كان من الممكن أن يبقى التزوير الذي مارسه المخالفون لأمير المؤمنين عليه السلام.
خرج أمير المؤمنين عليه السلام ليلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (يا رسول الله، إن قوماً يقولون إنك إنما خلفتني لأنك لا تحب رفقتي، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وهذا يسمى بحديث المنزلة وهو من الأحاديث المهمة جداً في مجال الاحتجاج العقائدي.
هنا في هذه الرواية التي نقلناها عن الشيخ الصدوق في كتابه الأمالي يأتي الحديث بشكل مفصل وواضح، (قال رسول الله صلى الله علي وآله وسلم: يا علي أنت مني بمنزلة هبة الله من آدم وبمنزلة سام من نوح) والمقصود بهبة الله هو النبي من بعد آدم عليهم السلام، فإنه لما قتل قابيل هابيل وكان هابيل هو المعد للنبوة وكان قرة العين بالنسبة لوالده، حزن عليه والده حزناً شديداً حتى عدَّ من البكائين الخمسة في تاريخ البشر، فالله سبحانه وتعالى بعد مدة من الزمان وهب له شيثاً وقال هذه هبة من الله إليك أي أنه يقوم مقام هابيل ولذلك سمي هبة الله وقد اختاره الله للنبوة وأصبح النبي من بعد أبيه آدم، تواصلت مسيرة النبوة والهداية في هذه الأسرة.
فمعنى قول الرسول لعلي عليه السلام بأنه بمنزلة هبة الله من آدم أي أنه خليفته ووارث علمه والقائم بأمره، لكن الفرق في أن شيثاً نبي ولذلك كان استثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأخير في قوله: إلا أنه لا نبي بعدي.
وفي إكمال الحديث: (وبمنزلة إسحاق من إبراهيم) وإسحاق هو والد نبي الله يعقوب الذي استمرت فيه النبوة والوصايا والخلافة والهداية بعد أبيه، (وبمنزلة هارون من موسى وبمنزلة شمعون من عيسى) وشمعون هو الوارث للرسالة والخلافة والقائم بالأمر.
نجد هذا الحديث ليس متواتراً بهذه التفاصيل، ولكن حديث المنزلة لكثرة أسانيده وهي أسانيد صحيحة بالرغم من أن في بعض الصحاح لم يذكروها لأسباب لا تخفى على المتأمل، لكن أبي عبد الله النيشابوري صاحب المستدرك على الصحيحين قال: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، أي أنه بحسب مقاييس البخاري ومسلم فإن هذا الحديث صحيح ولكن هناك نوع من التجاهل الصريخ والتغافل الواضح الذي يحتاج إلى بيان وإدراك.
على كل حال فإن هذا الحديث لا يتمتع بما يتمتع به حديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) أي من كثرة الطرق وتظافرها، وهناك رواية ينقلها ابن كثير الدمشقي عن سعد بن أبي وقاص، وابن كثير هو ضمن الخط الأموي في كتاباته أي أنه يغذي الإتجاه الأموي تاريخياً ومعاصراً، ففي كتابه البداية والنهاية يقول: بأن معاوية بن أبي سفيان جاء إلى المدينة ورأى سعد بن أبي وقاص فسأله معاتباً عن سبب عد قتاله معهم، فقال له سعد بن أبي وقاص: بأني رأيت ريح مظلمة ولم أعرف الهدى فيها فأنخت بعيري وقلت: نخ نخ، فقال له معاوية: ليس في كتاب الله عز وجل نخ نخ وإنما في كتاب الله ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي))، فقال سعد: ماكنت لأقاتل رجلاً قال له رسول الله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فقال له معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال له: فلان وفلان وأم سلمة، فأمره معاوية بأن يذهب لأم سلمة فشهدت أم سلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ثم قال معاوية لسعد: أما أني لو سمعته منك لما قاتلت علياً، وبالطبع فهو كاذب في ذلك لأنه يعرف عن علي كما يعرف سعد وإن لم يكن أكثر، لكن الشاهد هنا قرره بأن هذا الحديث هو حديث تام وصحيح وكان ينبغي أن يخرج مع علي بن أبي طالب عليه السلام.
هذا الحديث أهميته في أمور كثيرة، الأمر الأول: أن جملة (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) لا تحتاج إلى بحث بعكس (أنت مني بمنزلة هبة الله من آدم) أو (أنت مني بمنزلة سام من نوح) فهذا يحتاج إلى بحث، والسبب هنا بأن منزلة هارون من موسى مذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ((واجعل لي وزيراً من أهلي* هارون أخي* اشدد به أزري* وأشركه في أمري* كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً))، فلو يتأمل الإنسان في هذه الآيات فسوف تتبين له عدة أمور وهي:
الوزارة: ثبت الله سبحانه وتعالى وزارة هارون لموسى والوزارة مفهوم واسع وعظيم وثبت لهارون أخوته وشراكته، فإذا ثبتت الأخوة هنا فإن كل من يشكك في مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام سيرد عليه القرآن الكريم، نعم هناك خط أحمر بأنه (لا نبي بعدي) ولكن ما عدا ذلك فأنت معي ومني، كما يأتي في بعض الروايات: (أنت مني بمنزلة رأسي من بدني) فالرأس هو كل شي بالنسبة للبدن، إذاً فإن هذا الحديث يستدل به الإمامية على أن لعلي عليه السلام كل ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله، ونستثني من ذلك النبوة وخصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعروفة عند المسلمين.
إن حديث المنزلة من حيث الأسانيد هو متظافر بل متواتر، ومن حيث المعنى لا يمكن لبحاث في أحاديث رسول الله وتاريخ المسلمين أن ينكر معناه، وهناك تركيز عليه بأنه وضح قرآنياً فلم تترك منزلة هارون من موسى مغفلة أو مجهولة أو تحتاج إلى بحث، فأي شخص يقرأ القرآن سيعرف فيها منزلة هارون من موسى وبالتالي منزلة أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من شيعة أمير المؤمنين وأن يرزقنا شفاعته ورفقته في الجنة إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.